هل انحصرت العبادة في الأركان الخمس فقط ؟

لم ينحصر مفهوم العبادات عند أوائل المسلمين في نطاق الشعائر الدينية وحدها (كالصلاة والصوم والزكاة والحج000) بل شملت العمل ككل فالعمل أي السعي للرزق عبادة وكذلك ساعة اللهو والترويح فهي عبادة أيضا وإن اختلفت أنواعها ومجالاتها ونطاقاتها طالما أنها تتم بما يرضي الله وطبقا لتكاليفه ، فالإنسان ليس كالملائكة الذين لا يعصون الله في أمر من الأمور لأنهم خَلْقٌ نورانيٌّ لقولـه تعالى : ] وَلَهُ مَن فِي السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَن عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [ (سورة الأنبياء الآيتان 19 , 20) , وقوله تعالى ] لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ (سورة التحريم من الآية 6) فقد خلق الله الإنسان من طين وجعله يأكل ويشرب ويعمل ويتعب وينام وخلق له عقلاً يدبر ويفكر في مطالب الحياة الحسية والمعنوية ولو شاء الله أن يكلف الإنسان بالعبادة على طريقة الملائكة لمنحه طاقة الملائكة في التسبيح الدائم بغير فتور ، ولركّبه منذ البدء تركيبا آخر ، لكل ذلك جعل الله العبادة المفروضة على كل كائن من خلقه ؛ متناسبة مع طبيعة ذلك الكائن ومع حدود طاقته ، ولذلك قال تعالى عن الإنسان : ] لَقَد خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [ (سورة البلد الآية 4) , وقال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ [ (سورة الانشقاق الآية 6) .

ومجالات نشاط الإنسان عبادة لا تكلفه مالا يطيق ، وتتسع في الوقت ذاته ، حتى تشمل وجوده كله وعمره كله من لحظة التكليف إلى لحظة الموت لقوله تعالى : ] قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ (سورة الأنعام الآيتان 162 ، 163 ) ، والعبادة التي كُلِّف بها الإنسان وتشمل الشعائر التعبدية كما تشمل معها كل الحياة فالشعائر ما هي إلا لحظات مركزة يتزود الإنسان فيها بالطاقة الروحية التي تعينه على أداء بقية العبادات المطلوبة منه وعلى الإنسان أن يسأل نفسه عندما يسعى في الأرض ، ما هو التكليف المفروض علىّ في هذا الأمر ؟ ، ويلتزم بما أنزل فيه ، ومن أمثلة هذه التكاليف قوله تعالى : ] وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِر الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ . وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ، وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ [ (آل عمران 135 / 136) , وقوله تعالى : ] وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ (سورة النساء من الآية 19) وقولـه تعالى : ] فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [ (سورة الملك من الآية 15) , وقولـه تعالى : ] وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَـاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [ (سورة الجاثية الآية 13) .

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم " طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ " فالعبادة الشاملة المتكاملة تحقيق غاية الوجود الإنساني ، والمسلم الذي ينظر إلى الشعائر التعبدية على أنها هي العبادة المطلوبة فهو مخطئ لأنه بذلك يفصل العمل في الحياة الدنيا عن دائرة الإيمان فيصبح العمل ركيزة أخرى غير العبادة 0

و الحقيقة أن الحياة كلها عبادة فتشمل المناسك والعمل كله ، بل وحتى لحظة الترويح فهي ساعات مختلفة من العبادات ، فالنسك عبادة ، والكدح والعمل عبادة سواء كانت كدحا اجتماعيا أو اقتصاديا أو حتى سياسيا أو فكريا أو علميا فالكدح هو العبادة الدائمة التي يقوم بها المسلم وتتمثل في التوجه به إلى الله والالتزام فيه بما أنزل الله وبذلك يتحول الكدح إلى عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ويستحق عليها الثواب والآيات كثيرة والأحاديث النبوية توضح وتشرح ذلك فمن التكليف قوله تعالى : ] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ [ (سورة الملك من الآية 15) وقوله تعالى : ] وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ [ (سورة الرحمن الآية 9) 0

والزواج متعة الجسد ولا يتناقض ذلك الحس التعبدي مادام في حلال أباحه الله بل للمسلم عليه أجر ( حديث ) كما أنه يحصن المسلم من الفاحشة والتي يقع على من يفعلها حد الرجم أو الجلد .

وما كانت الأمة الإسلامية تستطيع في الماضي أن تحقق ما حققته في المجالات المختلفة كإقامة العدل ونظافة التعامل والوفاء بالمواثيق والحركة الفكرية والعلمية الضخمة ما كانت لتقدر على ذلك كله لولا هذا الإحساس العميق بأن ذلك كله عبادة خلق الله الإنسان من أجلها ليقوم به بنفس الحس الذي يؤدي به الصلاة ؛ ولا أدل على ذلك من قولـه سبحانه وتعالى : ] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [ (سورة آل عمران من الآية 110) ، وأما الترويح فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يداعب زوجاته ويدخل السرور على أهله ويتبسط مع أصحابه بل ويصحبهم إلى جلسة في بستان أو رياضة إلى خارج المدينة وتقام بين يديه مباريات في الفروسية كما كان يدعوهم ويوجههم إلى ما يجلو الكلل والملل عن قلوبهم في غير مأثم ولا استغراق يطغى على الواجبات ، فالترويح منشط للعبادة ومعين عليها ومن ثم فهو داخل في إطارها ، ولعل ما حدث في عهد الرسول e لخير دليل على ذلك فقد ذهب ثلاثة رجال إلى بيت النبي يسألونه عن عبادته e فلما أخبروا بها قالوا وأين نحن من النبي e وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فقال أحدهم : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الثالث : أما أنا فلا أتزوج النساء ، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قال : أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُم كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُم للهِ وَأَعْبَدكُم لَـهُ وَلَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّى " رواه الشيخان .

كذلك كان إحساس المسلم بسعيه في طلب الرزق ، وطلبه للعلم ، وعمارته الأرض ، وكل نشاط جسده وعقله وروحه .. كلها عبادة على الحقيقة لا على المجاز ، عبادة يقوم بها بذات الإخلاص الذي يؤدى به الصلاة ، ومن ثم حققت تلك الأمة ما حققته من منجزات وانتصارات في كل اتجاه .

وما كانت تلك الأمة لتقدر على دك حصون الشرك واقتلاعها بمثل هذه السهولة ، وبمثل هذه السرعة التي لا مثيل لها في التاريخ ؛ واستطاعت العمل على إعلاء وانتشار تلك المُثُل الرفيعة التي تميَّزت بها في عالم الواقع ، من إقامة العدل الرباني في الأرض ، ونظافة التعامل ، والوفاء بالمواثيق ، وشجاعة النفس والبطولة الفذة في ميدان القتال وميدان السلم سواء ، وبهذا كانت قادرة على إنشاء حركتها العلمية الضخمة ، وحضارتها الفائقة .

ولولا هذا الإحساس العميق لدى هذه الأمَّة بأنها تقوم بالعبادة الحقَّة التي خلق الله الإنسان من أجلها ، بذات الحس الذي تؤدى به الصلاة .

مشكورررررررين على ردودكم